لا تكاد تصدّق وأنت تطلّع على نتاج أرسطو في كتابه فنّ الشعر بأنّك أمام فيلسوف عاش قبل أكثر من ألفين وأربعمئة عام، حتّى أنّك تشعر بأنّه قال كلّما يمكن قوله حول بناء القصّة، وكلّ ما فعّله الّذين من بعده، أن حاولوا فهم مقاله أو تفصيله لملائمة سياقهم المعاصر.
خرج الفيلسوف المعروف بأقدم بنية درامية مدوّنة في تاريخ النقد عبر دراسة وتحليل المسرحيات التراجيدية الإغريقية، ورغم أنّه لم يحاول إثبات أنّ للقصّة شكلاً واحدًا لا تحيد عنه، إلاّ أنّ نظريته شكّلت حجر أساس لسائر الهيكليات السردية بعده، بل ولا تزال تُستخدم حتّى اليوم لا سيّما بين كتّاب السيناريو، وعندما يصف أحدهم عملاً بأنّه تجريبي البنية، فعادةً ما يقصد أنه يكسر هذا النمط.
تُعرف بنية أرسطو بالـ"البنية الثلاثية" والّتي تقسّم القصّة إلى ثلاث مراحل:
البداية Beginning
نقطة لا يلزم أن تنتج عن شيء يسبقها، لكن تترتّب عليها أحداثٌ تالية بطبيعتها.
امرأةٌ ستّينية تعود من نزهةٍ إلى منزلها لتفاجئ بجثّة مجهولةٍ أمام الباب، إذا بدأتِ القصّة من هذه النّقطة أصبح كلّ ما قبلها غير ضروري لبنائها، أين ذهبت المرأة للتنزّه، متى كانت آخر مرة تحدّثت فيها مع الجيران، كيف كانت سنوات طفولتها وشبابها، بالتأكيد يستطيع الكاتب التعريج على نقاط متفرقة من الماضي للكشف عن شخصيتها، ربّما تبدو في في هذه اللحظة امرأة بريئة ولكنّها كانت في السابق أمّ عنيفة، أو مديرة مدرسة متقاعدة، إلاّ أنّ هذه العودة غير ملزمة له بعد أن حدّد نقطة بداية القصّة.
النهاية Ending
نقطة تنتج طبيعيًا عمّا سبقها من أحداث، لكن لا تترتّب عليها بالضرورة أحداث لاحقة.
الشرطة تقبض على المجرم بمساعدة المرأة الستّينية الّتي تتحوّل إلى مخبرٍ سرّي، إذا انتهتِ القصّة هكذا فلا يعود مهمًّا كيف عاشت المرأة بعد ذلك، كيف أصبحت صحّتها، وكم قضية ساعدت الشرطة في حلّها، وكم سنواتٍ لاحقة عاشت، وكم أصبح لديها من أحفاد.
الوسط Confrontation
نقطة ربطٍ طبيعية بين البداية والنّهاية (أي أنّها محصلة سلسلة الأحداث بينهما).
قبل أن تتصل بالشرطة، تجمع المرأة كلّ الأدلة المادية الّتي تقع عليها، تدرس طبيعة ملابس الضحية، تستغلّ التصوّر الاجتماعي عن العجائز في جمع أكبر قدر من المعلومات، ثمّ تورّط نفسها بالمتاعب عندما تلاحق المجرم من حيّ لآخر، ربّما تستعين بحفيدٍ ماهرٍ في استخدام التقنيات الحديثة للتقصّي، وتتحوّل القصة إلى مغامرة مشتركة بين عجوزٍ ومراهق، ربّما تتعرّض المرأة لإطلاق نار، أو تضطر لدخول المشفى إثر ارتفاع الضغط، المهم، والمهم فقط، أنّ كل ما يحدث هنا يحدث لهدف واحد، هو الانتقال من نقطة تعثّرها بالجثّة، إلى نقطة العثور على الجاني وانتهاء القصّة.
يقول جيمس سكوت بيل في كتابه Plot and Structure: "السبب وراء نجاح بنية أرسطو الثلاثية عبر القرون هو أنّها متّسقة مع مسار الحياة الإنسانية، الإيقاع الثلاثي متجذّر في معظم ما نفعل، نُولد فنعيش فنموت. الطّفولة (البداية) قصيرة نسبيًا وتؤهّلنا لخوض العيش في مرحلة الشّباب، والّتي تشكّل المرحلة الوسطى حيث نقضي جلّ أعمارنا، ثمّ نختتم الحياة في فصل أخير ينهي كلّ شيء".
فكّر على مستوياتٍ أصغر أيضًا، في أوّل يومٍ من المدرسة يتعرّف الطّفل على معلّميه، زملائه، هيكلية المدرسة، مناخها العام، من هو بين الطّلاب الآخرين، ثمّ يخوض معترك الدراسة لسنة كاملة، قبل أن يختتمها بالاختبارات والنّجاح أو الرسوب.
يمكن تطبيق البنية على قصّة المرض أيضًا، يزور الفرد المشفى بسبب ألمٍ أو عارض حين يكتشف بأنّه مصابٌ بداءٍ ما، هذه الزيارة الّتي يكتشف فيها إصابته بالدّاء هي شرارة القصة، ثمّ يخوض معركة طويلة ضدها من الأدوية والعلاجات الطبيعية والعمليات، قبل أن يختتم الطبيب القصّة بإعلان انتصاره على المرض أو تمكّنه منه.
لهذا ظلّت بنية أرسطو صالحة عبر العصور، ليس لأنها مثالية سرديًا، بل لأنها تُحاكي وعي الإنسان بالتغيير، فكلّ كاتب - ما لم يتعمّد كسر القواعد التقليدية - يحاول بوعي أو دون وعي إعادة تمثيل هذا الإيقاع القديم: الشرارة الأولى، الصّراع الطّويل، النّهاية المحتّمة.
