من ثلاث إلى خمس مراحل

لم تتطوّر هيكلية جديدة بعد أرسطو لقرونٍ طويلة، واستخدم العديد من الكتّاب بنيته كأساس في التراجيديا والكوميديا، حتّى ظهر عام ٥٦ قبل الميلاد، الكاتب المسرحي الروماني هوراس الّذي أشار إلى وجوب أن تتكوّن المسرحيات من خمس أجزاء لا أكثر أو أقلّ.

لم يقل شيئًا عن محتوى هذه الأجزاء ولم يقدّم أي إرشادٍ حولها، ولم يؤخذ منهجه بجدّية، لا سيّما وأنّه دافع عن حقّ الدّولة الرومانية في فرض الرّقابة على المسرح، وجادل في وجوب ألاّ يتجاوز عدد الممثلين ثلاثة، لكنّه لم يكن معدوم التأثير تمامًا، حيث يُقال بأنّ محرري شكسبير، استفادوا بعد قرونٍ من ملاحظات هوراس بتقسيم مسرحياته إلى خمسة إيقاعات، التقسيم الذي سيستخدمه بعد ثلاث قرونٍ صاحب الهيكلية السّردية اّتي نتحدّث عنها اليوم.

غوستاف فريتاغ

في عام ١٨٦٣م نشر الكاتب والسياسي الألماني غوستاف فريتاغ كتابه Technique of the Drama الّذي وثّق فيه دراسته الطويلة للأنماط الشائعة في التراجيديا الإغريقية ومسرحيات شكسبير، ومثّل النّمط الّذي استنتجه في هرم معروف باسمه Freytag's Pyramid، وهو مخطّط بياني يصوّر هيكلية سردية ناضجة من خمس مراحل، نستعرضها هنا مع التعريج على الفروقات بين مفاهيمها الأصليّة وتطبيقاتها في القصة المعاصرة.

المقدّمة Exposition

مماثلة لمرحلة التأسيس في البنية الثلاثية لأرسطو، لكنّ فريتاغ شدّد على أن تكون قصيرة وألاّ تكون منفصلة عن السردية الرئيسية.

في القصّة المعاصرة، مهما كانت المقدّمة قصيرة فإنّها في العادة تتكوّن من عدّة مشاهد، ربّما لتعزيز التشويق والإثارة، أمّا بالنسبة لفريتاغ، الّذي تناول مسرحياتٍ تمتدّ لثلاث ساعاتٍ تمامًا، فالمقدّمة لا تتجاوز مشهدًا واحدًا، ينتهي بما سمّاه الحدث المحرّك، وهو الحدث الّذي ينقل الشخصية من عالمها السّاكن إلى العالم الدرامي حيث يتصاعد الصّراع.

التّصاعد الدّرامي Rising Action

يمكننا القول أنّ فريتاغ قسّم المرحلة الوسطى من البنية الثلاثية إلى ثلاث مراحل: التّصاعد والذروة والانحدار.

إذا أجريتَ بحثًا بسيطًا عن التعريف المعاصر لمرحلة التصاعد، فالغالب أنّها ستُقَدَّم لك على أنّها المرحلة الّتي يحتدم فيها الصّراع والتوتّر والإثارة، حيث يقود البطل معاركه الداخلية والخارجية، وهذا هو التعريف الشّائع للتصاعد، لكنّ فريتاغ كان له رأي مختلفٌ قليلاً، فهو أوّلاً صنّف المسرحيات التراجيدية إلى تصنيفين:

١. المسرحيات الّتي يحرّكها البطل.

في هذه التراجيديات، يكون البطل متهوّرًا، ويقضي مرحلة الصعود في اتخاذ قرارات ستقوده في النهاية إلى الشقاء.

٢. المسرحيات الّتي يحرّكها التأثير الخارجي.

هذا التصنيف أكثر ندرة كلاسيكيًا، حيث يكون البطل هادئًا، ويتردّد في إثارة المتاعب، لكن قوى خارجية – شخصيات أخرى مثلاً – تمارس تأثيرًا سلبيًا حتى يخضع البطل لها في النهاية.
إذًا لا يتعلّق الأمر باحتدام التوتّر والصراع كما نعرّف التصاعد في أيامنا هذه، بل بالقرارات التي يتخذها البطل أو تُتخذ عنه، أي أنّ التصاعد يحدث طالما كانت لدى البطل الفرصة الأكبر لتجنّب المأزق، أو بلغةٍ أخرى تجنّب لحظة الذروة.

الذروة Climax

النّقطة الفاصلة بين التصاعد والانحدار، تحدث في اللحظة التي يفعل البطل فيها شيئًا يؤدّي إلى انحدار مصيره. 

تُشكّل الذروة في القصة الحديثة نقطة فاصلة وحاسمة، تتمثّل في مشهد واحد غالبًا يبلغ فيه التوتّر أقصاه وتبدأ خيوط القصة المتشابكة بالتفكك، وعندما تقرأ رواية تقليدية حديثة، أو تشاهد فيلمًا هوليوديًا، يكون من السهل عليك إيجاد نقطة الذروة، وتدرك غريزيًا بأنّ وتيرة الأحداث منذ هذه اللحظة سوف تهدأ وبأنّ العمل يوشك على الانتهاء.

أمّا الذروة لدى فريتاغ، فلا تتقاطع بالضرورة مع بلوغ التوتر أقصاه، بل نراه يختار في الأمثلة التي يوردها الأحداث الأكثر ترجيحًا لبدء الانحدار، مهما كانت اهمية هذه الأحداث في القصة كاملة، على سبيل  المثال، في روميو وجوليت، تشمل الذروة لدى فريتاغ نفي روميو، إنهاء زواجه بجوليت، والوداع بينهما.

الانحدار Falling Action

الانحدار لدى فريتاغ هي المرحلة الّتي يسقط فيها البطل بين الأعداء، وبالتأكيد فإنّ البطل في المسرحيات التراجيدية يخوض نزالاتٍ حامية بعد سقوطه، وهذا يفسّر لمَ يتساوى ضلع الانحدار مع ضلع التصاعد في الرسم البياني الأصلي للهرم.

أمّا في القصة المعاصرة فالانحدار أقصر من التصاعد، وربّما يكون أكثر أجزاء الرواية تعقيدًا بالنسبة للكاتب، إذ عليه الموازنة بين قيادة القصّة نحو نهايتها، وبين الحفاظ على فضول المتلقّي، فنجده يتأرجح بين إعادة طرح الأسئلة وبين تقديم إجابات محتملة لها، ونجده يقرّب البطل من مصيره حتى إذا صار أدنى ما يكون إليه أعاده إلى صراعاته الأولى، هكذا نجد أنفسنا في مد وجزر متكررين حتى يقرر الكاتب الخروج بنا إلى الخاتمة، المرحلة الأخيرة من الهرم.

الخاتمة Catastrophe

من المثير للاهتمام أنّ فريتاغ استخدم كلمة Catastrophe في تعريف المرحلة الأخيرة من هرمه، وهو مصطلح يعني الفاجعة أو الكارثة، وهذا قد يكون بيديهيًا في التراجيديا حيث ينتهي البطل دائمًا نهاية مأساوية، وحيث الهدف الأوّل من مشاهدتها تطهير مشاعر الجمهور أو التنفيس عنها Catharsis - لدى القدّيس أوغسطين في اعترافاته رأي سلبي ذكيّ من هذا التطهير أوصي بقراءته -.

أمّا اليوم، فالكلمة الأكثر شيوعًا لهذه المرحلة هي Resolution أو Denouement، أي الخاتمة، فنحن نمتلك نوعان من الخاتمة: نهاية سلبية ونهاية إيجابية. وكثيرًا ما يوهم الكاتب قارءه بخاتمة إيجابية False Positive قبل أن يصدمه بتحوّل سلبي، أو قد يفعل العكس أحيانًا.

وأحيانًا، يترك الكاتب قرّاءه أمام نهاية مبهمة ليتيح لكلّ منهم مساحةً واسعة للتأويل، مثلما فعلت مارغريت أتوود في حكاية الجارية أو مثلما فعل يان مارتل في حياة باي.

أخيرًا..

بالرغم من مرور ما يزيد عن مئة وستين عامًا على ظهور هرم فريتاغ، واختراع التلفاز والأفلام والمسلسلات وألعاب الفيديو، وتطوّر هيكليات وأنماط ودراسات أكثر شمولية تسمح بتنوّع أكبر في السرد، إلاّ أنّ مراحل فريتاغ الخمس لا تزال حيّة حتى اليوم، تأخذ أسماءًا مختلفة، وتتبدّل معانيها حسب نوع القصّة وفلسفة المنظّر.