نسج الإنسان علاقة فريدة بالكتابة منذ أول خطّ رسمه على جدار كهف، فمن أداة لتسجيل حساباته أو تثبيت قوانينه فحسب، تحولّت سريعًا إلى وعاء للذاكرة، ونافذة للتأمل، وقالب للقلب والمشاعر. أضحت جسرًا بين الماضي والحاضر، أو بوابة للخلود تربط الأفراد عبر الزمن.

في الكتابة محاولات لمقاومة النسيان؛ مرورًا بملحمة جلجامش أو النقوش الفرعونية، ثم المخطوطات في العصور الوسطى، حتى اختراع الطباعة الذي أدى إلى نقلةٍ نوعية في انتشارها، وأخيرًا الفضاء الرقمي وصولًا إلى الذكاء الاصطناعي الذي أصبح يمتلك القدرة على الكتابة وتوليد الأفكار.

وكما يرى جاك ديريدا فإن الكتابة ليست مجرد تمثيل للكلام ولا رصف للكلمات كيفما اتفق،٢ ث طع بل: "الكتابة شرط إمكان الفكر ذاته، إذ هي ما يمنح اللغة حضورها الغائب." (علم الكتابة| 1976) ويقول عبدالسلام هارون: "الكتابة هي سجّل العقل، ووعاء الفكر، وواسطة نقل الحضارة".

ومابين كونها مرتبطة بالفكر، وانعكاس للمشاعر، فهي فعل مقاومة مثلما اعتبرها ألبير كامو: "أكتب حتى لا أجن". 

تعدُّ الكتابة اليوم علاجًا نفسيًا، حيث أثبتت بعض الدراسات أن الكتابة التعبيرية تساعد في التخفيف من الصدمات، وتمنح الإنسان القدرة على إعادة صياغة قصته الخاصة.

وحين يكتب الإنسان فإنه لا يدون أفكاره فقط، بل يسعى أحيانًا إلى توليد الأفكار، يقول الفيلسوف الفرنسي مونتيني: "لا أعرف ما افكر فيه إلا حين أكتب"ـ فالكتابة عملية منظمة تساعد على تحويل الذهن من حالة التشويش إلى حالة النظام، ومن الخيال الذي تسبح فيه الأفكار إلى الكلمات المنظومة أمام العين.

وباعتمادها على الذاكرة، على صورها، وأحداثها والمشاعر التي تختزنها، فإن الكتابة تساعد الإنسان على صنع نسخة أخرى منه يتشاركها مع الآخرين. وإلى جانب العقل والذاكرة، يلعب الخيال دورًا مهمًا، فالكاتب يعيد تشكيل الواقع وفق تصورات جديدة، ويصبح النص مجالًا لابتكار عوالم ممكنة، ولتصوير مالم يحدث وكأنه واقع.

ولربما كان هذا رأي أفلاطون حين انتقد الكتابة لأنها تقدم ذاكرة زائفة وتفصل المعرفة عن صاحبها، وفي المقابل فإن أرسطو يرى الكتابة أداة بلاغية قادرة على الإقناع وفتح آفاق جديدة للخيال، وهذا جدل ما يزال قائمًا إلى اليوم: هل الكتابة مرآة للحقيقة أم وسيلة لخلقها؟

وعلاقة الإنسان بالكتابة تتجاوز عالم الشهادة والحضور إلى عالم الغيب، حيث عدّت جميع الأديان الإبراهيمية كتبها مثل القرآن والتوراة والإنجيل "كلام الله"، وتدوينها عمل دقيق تحفّه القداسة، وهذا ترك أثره على الخط العربي وحوله من ممارسة جمالية إلى طقس روحي، وانعكس التأمل والبحث عن الصفاء في الكتابة على نسخ المانترا أو الهايكو في الثقافات الآسيوية.

واليوم يفتح الذكاء الإصطناعي أبوابًا وآفاقًا أمام البشرية، فهل سيكون أداة مساعدة في صف الكاتب؟ أم عائقًا يسلب الكاتب لحظات المخاض الإبداعي الطويلة؟
فازت الكاتبة اليابانية ري كودان بجائزة أدبية، واعترفت بأنها استخدمت الذكاء الاصطناعي في كتابة روايتها، وهو أمر لم تستنكره لجنة الاختيار على الإطلاق. 

وقد تظهر الكثير من المشاكل مستقبلًا مع الذكاء الاصطناعي، لكن يمكننا اليوم النظر إلى أنه أداة مساعدة لتوليد أفكار أولية، واقتراح بدائل لغوية وصقل الأسلوب واكتشاف الأخطاء، كما لا غنى عنه في إجراء البحوث السريعة، ويمكن كذلك استخدامه لتجاوز "حبسة الكاتب" بفتح مسارات جديدة للسرد. 

تبقى الكتابة رغم كل شيء وسيلة الإنسان في الاتصال بذاته والآخرين، ومنظارًا للرؤى، وبحثه الدائم عن معنى؛ كما قال أدونيس: "أكتبُ لأعيد تشكيل عالمي، لأعثر على بصيص ضوءٍ في هذا الظلام".