عندما اطّلعتُ على اقتباسات القرّاء في وسائل التواصل الاجتماعي لرواية عزيز محمّد الثانية "غرباء حميمون"، حزرتُ انتماءها إلى روايات "تدفّق الوعي"، ما أحبطني، لا كراهيةً في التقنية، بل لأنّ جلّ تجاربي مع نصوص تدفّق الوعي غير مشجّعة، صوتٌ داخليٌ مستنسخ، ومزاجٌ مكرّر، ومحاولاتٌ هزيلةْ للتفلسف، وسماتٌ شخصية يُعاد اجترارها عشرات المرات.

وتحت هذا الانطباع، بدأتُ بقراءة الرواية كنصّ متدفّق لا يعتمد على البنية الخطّية أو التحوّلات الدرامية المفصلية، بل على السرد الدّاخلي والتشظّي الزمني واللغة المبتَكرة. لكنّ هذا الانطباع راح يزول تدريجيًا مع التقدّم في القراءة، لتتبدّى مفارقة مركزية: الرواية تختار شكلاً يوحي بالتماسك السردي، لكنّها تواصل التفكك دون وعيٍ منهجي، لتننتهي إلى عمل لا ينتمي إلى الرواية الخطية ولا إلى أدب التدفّق، بل إلى منطقة مرتبكةٍ بينهما.

تجادل هذه القراءة بأنّ مأزق رواية غرباء حميمون يكمن في اختيارات شكلية غير متّسقة مع المضمون السردي، من خلال تحليل ومناقشة عناصر الشكل الكلّي للعمل (Narrative Form Elements).

انهيار البنية الخطّية

أشكلني الزمن في الرواية منذ الصّفحات الأولى، فعزوتُ هذا الإشكال إلى تقنية تدفّق الوعي، ولمّا كانت تقنيةً تحاكي تجربة التداعي الحر على كرسي التحليل النّفسي، أردتُ أن أحاكي دور المحلّل النفسي فأسمح للبطل بالتنقل بين الطفولة والمراهقة والشباب دون أن أطالبه بترتيب الأحداث لملائمة عقلي البشري البسيط.

لكنّ هذا التبرير لم يصمد طويلًا، إذ أخذ شعوري بالخلل الزمني يتفاقم لسببٍ بديهي، هو أنّ الكاتب اختار عنونة الفصول بسنوات وقوع الأحداث، ورتّبها ترتيبًا كرونولوجيًا يبدأ في ٢٠١٣ وينتهي في ٢٠٢٢، بل وأسّس لزمنٍ سرديٍ واضح عندما افتتح الرواية بتصريحٍ يقول:

قبل عشر سنوات علمتُ بأنّي سأكتب يومًا ما هذه الرسالة. واليوم، شعرتُ أنّه لم يعد يمكن إرجاؤها أكثر… كل ما أعرفه أنني لا يمكن أن أكتب لأي شخص آخر، عدا الشخص الّذي كان غيابه هو بداية الحكاية

أي أنّ القارئ يجد نفسه أمام هذه المقدّمات:

١. تبدأ الحكاية بغياب شخص عزيز على السارد.

٢. يبدأ زمن الحكاية عام ٢٠١٣.

٣. يبدأ زمن السرد / زمن كتابة الرسالة عام ٢٠٢٣ (١٠ سنوات بعد بداية الحكاية).

لكنّ هذه المقدّمات تنهار منذ أوّل صفحات الرواية، ففي حين تُرتّب الفصول بهذا الشكل: ٢٠١٣ ، ٢٠١٤ -٢٠١٦ ، ٢٠١٨ ، شتاء ٢٠١٩ ، ربيع ٢٠١٩ ، صيف ٢٠١٩ … ٢٠٢٠ - ٢٠٢٢.

نلاحظ أنّ الأحداث تأخذ هذا التسلسل غير المنتظم: ٢٠١٣، زمن الطفولة، زمن السرد، ٢٠١٣، زمن السرد، ٢٠١٣، زمن الطفولة، ٢٠١٤، زمن السرد، ٢٠١٤ …. إلى حدّ تضيع فيه حدود الزمن وتصبح عناوين الفصول بلا معنى.

كمثال، يقصّ السارد الحكاية في الفصل المعنون بـ ٢٠١٤: "تداركني التعب أخيرًا عند محلّ مهجور، طُمسَت معالم لوحته الموشكة على السّقوط، وفاترينته المغبّرة تشفّ عن فراغ رفوفه في الداخل" ، ثم ينتقل إلى الطفولة: " بمجرّد الجلوس على عتبته، استعاد لساني طعم المفرحات المحرمة الّتي تناولتها هناك. كان أخي يمسك بيدي، ونحن نقطع الشوارع إلى هذا الركن. لم أكن أتجاوز الخامسة بعد، أمّا هو فكان على أعتاب البلوغ، متورطًا بقياسات جسده الجديدة" ، يستفيض في هذه الحكاية لصفحةٍ كاملة، قبل أن يسرد في نصف صفحة تأمّلاتٍ عن منزل الطفولة: "...أتذكره بأسى شفيف، تكثّفه كل صورة تافهة، كقطرات الشطّاف المتدفقة على بلاطات حمّام عربي. وفي حمّام مسجد النور الّذي تشفّ نوافذه المثلمة عن سماء يتبدل لونها إلى الدكنة" .

مثال أكثر تركيبًا في فصل ٢٠١٨، يقول السارد: "أفارقه عائدًا إلى المكتب ممتلئًا بأفكار شتّى. بينما أحادث أحد المديرين عبر الهاتف، أجد نفسي أرسم مقرصنات عشوائية على ورق شفاف" ، ثمّ ينتقل إلى تأمّلاتٍ في العمارة خارج حدود الحكاية: "شعرتُ دائمًا بمسافة تفصلني عن التصاميم الّتي تنطلق من برامج الإظهار وتطبيقات المحاكاة الحديثة … لم أكن أسعى للعمق والتعقيد بل لشيء أبسط، أشدّ اتّصالاً بالجوارح" ، ثمّ إلى ذكريات الطفولة: "لا أزال أحتفظ بذاكرة واجبي المدرسي الأول في المدرسة، حين طلب مدرس الفنيّة أن يرسم كل واحد منزله. وفي المساء أخرجتُ كراستي وعلبة الألوان الخشبية" .

المستويات السردية

من خلال ملاحظة البنية الخطّية، نستنتج ثلاث مستويات سردية متداخلة:

(١) المستوى الخارج حكائي Extradiegetic: حيث يكتب البطل الرسالة ويضع تأمّلاتٍ عشوائية خارج السياق الزمني. 

(٢) المستوى الداخل حكائي Intradiegetic: الحكاية الرئيسية الّتي تبدأ في ٢٠١٣ وتنتهي في ٢٠٢٢.

(٣) المستوى الميتاحكائي Metadiegetic: حكايات الطّفولة.

كان تشابك هذه المستويات ليكون منطقيًا لولا عناوين الفصول الّتي أسّست لهيكلية خطية، كان ليكون منطقيًا أيضًا لو تطابق المستوى (١) مع المستوى (٢) ليسرد لنا البطل الحكاية الرئيسية أثناء حدوثها، فتكون استعادة الميتا-ماضي بتفاصيله الغنية منطقية إلى حدّ ما، أو لو أنّ (١) و(٣) لم يضيّعا القارئ في دوائر متداخلة من الحكايات والتأمّلات، أو لو كانت الحكاية الرئيسية في المستوى (٢) مكتملة الأركان و مترابطة.

المنحنى السردي للحكاية الرئيسية

إحدى خصائص الحكاية الخطّية وجود مسارٍ منطقي متماسك، حدث س > فحدث ص > فحدث ع … إلى أن تنتهي الحكاية بحدثٍ مرتبطٍ منطقيًا بالحدث س. لشدّة تماسك هذا الخط في بعض الروايات فإنّه يذوب تمامًا حتّى أنّ القارئ لا يفطن لوجوده بل يشعر وكأنّ الرواية كتبت نفسها بنفسها، أمّا في الروايات الأقل تقليدية فقد يتعمّد الكاتب التلاعب بالمنطق الداخلي لتحقيق أهدافٍ دلالية.

نعود إلى المقدّمات الّتي أسّس لها الكاتب بداية الرواية، بالتحديد "تبدأ الحكاية بغياب شخص عزيز على السارد"، تؤسس هذه المقدّمة إلى فكرتين: وجود حكاية لها بداية وامتداد، ووجود شخصية محورية لهذه الحكاية، فهل التزمت الرواية بهذه المقدّمة؟

في الفصل الأوّل من الرواية، يعود البطل من موقع عمله خارج المدينة إلى منزل عائلته حيث يكتشف اختفاء شقيقته الّتي هربت إلى خارج الدولة، نشاهد تأثير هذا الهروب على البطل وعلى الأسرة، نفهم أيضًا بأنّ الأخت هي الشخص المقصود بالرسالة: "أخفيناكِ بحضورنا المكثّف، بلقاءاتنا التي زادت في البيت، ورائحة الطهي والبخور تملأ الهواء" . كنتُ متحمّسة جدًا عند هذه النقطة، لأنّي ظننتُ أنّ الرواية ستكون عن هذا الهروب من وجهة نظر شقيقٍ لا يبدو بأنّه عنيف أو متعجرف.

بيد أنّ هذه المركزية تتلاشى سريعًا ولا يصبح لها تأثير على الأحداث التالية إلاّ على نحو ما يؤثّر حدثٌ جانبي. ينقلنا البطل في الفصل الثاني إلى أمريكا وذكريات دراسته هناك معرّجًا على شقيقته بشكل بسيط، ومفصّلاً في أحداثٍ عشوائية عن الأفراد الذين التقاهم في الولاية … والأنشطة الّتي حضرها.

في الفصل الثاني ٢٠١٨ نشاهد البطل وقد عاد إلى الخبر واستأجر ملحقًا، ليبدأ سردٌ فوضويٌ عن علاقته بصديقه سلطان، بإخوته، الكثير والكثير من ذكريات العنف والبنوّة والأخوّة، يومياته في النادي الرياضي، يومياته في العمل  - لا أفهم سرّ تجاوز ٢٠١٧ إذا كان السرد بهذه الفوضوية - ما علينا، يمكن أن نعتبر العنف موضوعًا واضحًا في هذا الفصل، الّذي رغم تشتّته، قدّم لنا أحكم وأذكى مشهدٍ في الرواية حين ربط بين عنف الإخوة والأقران والعنف الرياضي ضدّ الجسد.

تبدأ الحكاية الرئيسية بشكل فعلي صفحة ٨٧، الفصل المعنون بشتاء ٢٠١٩، هنا تظهر الشخصية المحورية في العمل وهي زوجة البطل، الشخصية الّتي وددتُ لو وُجّهتِ الرسالة إليها، ولو افتُتح الكتاب بحكايتها، لأنّه ببساطة ينتهي بها، ولأنّها حكاية مكتملة الأركان، ولأنّ علاقتها بالبطل تترجم عنوان "غرباء حميمون" بشكل أفضل بكثيرٍ من الأخت.

هكذا نلاحظ أنّ حدث اختفاء الأخت غير مرتبطٍ بالدراسة في أمريكا، الّتي بدورها غير مرتبطةٍ بحكايات الإخوة والأصدقاء والنادي الرياضي الّتي بدورها غير مرتبطةٍ بالزواج الّذي يشكّل حكاية جيّدة بمعزلٍ عن الأجزاء السابقة.

وقد يقول البعض أنّ الرابط بين هذه الأحداث هو ببساطة صوت السّارد وقضاياه النفسية، وبأنّ الرواية لم يُقصد منها تكوين حكاية خطّية، قد يكون هذا صحيحًا - رغم غياب وحدة الموضوع - ، لكنّ هذا يقودنا من جديد إلى حقيقة أنّ الخيارات الشكلية لم تخدم المحتوى.

نوع الرّاوي

كنتُ لأعزو غياب الانسجام إلى رداءة فهمي، لولا ضعف تنفيذ إطار العمل: رسالةٌ من السارد إلى أخته.

نجد أوّلاً أنّ نوع الراوي يتأرجح في أوّل فصلين بين الأول والثاني First & Second Narrator، والرّاوي الأوّل معروف، أمّا الرّاوي الثاني - لمن لا يعرف - فيعني أن يوجه السّارد خطابه إلى شخصٍ بعينه. يُستخدم هذا الصّوت في الرّوايات الّتي تأخذ شكل رسائل، "ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، و The Friend لـ Sigrid Nunez، يُستخدم أيضًا لمخاطبة القارئ في روايات الجريمة والروايات التجريبية، ولعلّ أشهر من استخدمه على هذا النحو كان إيتالو كالفينو في "لو أنّ مسافرًا في ليلة شتاء".

هكذا نجد أنّ استخدام الرّاوي الثاني منطقيٌ في روايتنا: "قبل عشر سنوات، ظننتُ أنّي سأتوقف عن الكتابة عند هذه النقطة. واليوم قررتُ أن أكمل كتابة ما جرى في غيابك، وأشياء أخرى تعرفينها جرت في حضورك" ، لكنّ هذا الاستخدام يتوقّف منذ الفصل الثالث دون تفسير، لتتوقّف معه كتابة الرسالة، وحضور الأخت، قبل أن تظهر ثانية في الفصل الأخير: "حين بلغتُ إخوتي، اقترحت مريم أن نجتمع في العيد في البيت الكبير قبل أن نسلّمه إلى مالكه. وفي أثناء تخطيطنا لذلك الاجتماع، عاد اسمكِ للحضور" .

لاحظ استخدام تعبير "إخوتي" لا "إخوتنا"، وهو أمرٌ يتكرر خلال الرواية/الرسالة، فهي "أمّي" لا "أمّنا"، وعندما يتذكّر البطل صورًا مؤثّرة من الطّفولة فإنّه يتذكّرها في سياقٍ منفصلٍ عن أخته، فيقول: "في طفولتي زرعت أمّي في رأسي كثيرًا من القصص حيال أطفالٍ نبشوا في تربةٍ فأهلكهم عقربٌ أو هامة، وجيرانٌ أصيبوا بأمراض غامضة لا برء منها بسبب القطط".

أظنّ أنّ مشكلة الرواية تتجلّى أكثر ما تتجلّى في عناوين الفصول وفي فكرة الرّسالة، حيث اختيار الهيكلة الخطّية واختيار الراوي الثاني لم يخدما السرد الّذي يعتمد على التداعي الحر والتأمّلات والقفزات الزمنية.

زمن الفعل

يُقلّب السارد صيغة الفعل بين الماضي والحاضر دون سببٍ مقنع، بل أحيانًا داخل المشهد الواحد، وإشكالية هذا التقلّب أنّ للفعل الماضي مدلولاتٌ مختلفة عن المضارع، فالماضي هو الصيغة الطبيعية للقصّة، أمّا المضارع فيحمل مدلولاتٍ إضافية تشير إلى محاولة عقلنَة أو إنقال مشاعر غامرة، مثل: التوتّر، الإثارة، الصّدمات النفسية، الخوف، الهذيان، التشوّش.

تستخدم أمل الفاران المضارع في روايتها القصيرة "حجرة" ببراعة لتنقلنا إلى عقل مريم الّتي تعاني من أعراضٍ ذهانية، ولذلك، يكون الإرهاق الّذي تجده أثناء قراءة العمل مبررًا تمامًا لأنّ تركيب الجمَل يجبرك على التوحّد مع البطلة وتجاوز التعاطف إلى المواجدة، وعندما تفهم هذا تدرك أنّ حجم الرواية الصغير مقنعٌ أيضًا، لأنّها لو كانت طويلة لما استطعت إنهاءها، وهذا مثالٌ جيّد على انسجام عناصر الشكل لخدمة المحتوى والمفهوم.

أخيرًا

لا شكّ أنّ للكاتب لغةً استثنائيةً يُغبط عليها، وأنّه كان قادرًا على تصوير جيل الألفية ببراعة في مختلف مراحلهم العمرية، وأنّ أيّ محبّ للخُبَر سيكون سعيدًا بالقراءة عنها عبر عدسته، ولولا قيمة العمل لما استطعتُ إنهاءه فضلاً عن كتابة مقالٍ طويل عنه، لكنّ كلّ هذه المزايا لا تغني عن رواية سليمة ومتماسكة، وكما يقول إيدغر آلان بو في مقاله المشهور Twice-Told Take, A Review : "الفنّان الأدبي البارع في بناء الحكاية، لا يطوّع أفكاره لملائمة الحوادث، بل يبدأ بتصوّرٍ متأنٍ لأثرٍ فريدٍ ومحدّدٍ يرغب في بلوغه، ثمّ يبتكر الحوادث والوقائع الّتي تخدم ذلك الأثر المرسوم سلفًا، فلا يكتب في العمل بأسره كلمةً واحدة لا تتجه - بشكل مباشر أو غير مباشر - نحو ذلك الأثر".