رغم تطوّر أشكال القصّة عبر الحضارة الإنسانية، وتنوّع صورها بين المسرح والدراما والروايات والأفلام وألعاب الفيديو، إلاّ أنّها في عمقها احتفظت بعناصر جوهرية، مكّنت المنظّرين من ابتداع مخطّطات وأطرٍ تساعد الكتّاب على صياغة قصص منطقية ومتماسكة ومشوّقة.
تُعرف هذه المخطّطات بالهيكليات السردية، وهي للقصّة بمنزلة التخطيط المعماري للبنيان، إلاّ أنّ الكاتب قد يستخدمها عن وعيٍ نظريّ أو عن حدسٍ فنّي وملَكة فطرية، ونحن نعيش في عصر يتّجه فيه القصّاصون أكثر فأكثر إلى أنماطٍ سردية مقنّنة، وهذا مفهوم، فالإنسان يأنس بما يألف، وجلّنا نستهلك الروايات والمسلسلات وغيرها لا بحثًا عن قصّة جديدة فحسب، بل شوقًا لتجربةٍ سابقة قدّمت لنا ما قدّمته القصّة دائمًا: "السّفر بالنّاس إلى أماكن جديدة عبر التجربة، وعبر إيهامهم بأنّ الحياة تجري على الصفحات"*.
وربّما اكتسبت الهيكليات سمعةً سيئة بعد أن حُوّلت في الصناعات الثقافية إلى قوالب جاهزة، تُنتج القصص كما تُنتج البضائع، منزوعة الأصالة ومفرغة الروح، لكنّ الكاتب الأصيل لا يتعامل مع الهيكليات كنموذجٍ جامد، بل كإرثٍ حيٍّ يستوعبه ويعيد تشكيله، فهو بدراسة هذه الهيكليات يحقق هدفين متوازيين: أوّلهما استيعاب سلفه من الكتّاب والقصّاصين، وثانيهما تحقيق الحدّ الأدنى من توقّعات المتلقّي، فمنظّري هذه الهيكليات درسوا الأعمال الفارقة تاريخيًا للخروج بأنماطٍ يستطيع الجيل الجديد تبنّيها وتطويرها ثمّ كسرها والتمرّد عليها، هكذا تزداد هذه الهيكليات ثراءًا جيلاً بعد جيل، فمن بنية أرسطو البسيطة، إلى رحلة البطل المشهورة مرورًا لا انتهاءًا بالهيكلية الهندسية في كتاب Story Engineering.
ونحن حين ندعو إلى فهم الهيكليات، لا ندعو إلى اتّباعها اتبّاعًا أعمى، بل سوف نستعرض نموذجًا رائعًا مضادًا للهيكلية قدّمه المنظّر جون تروبي في كتاب The Anatomy of Story، ولكنّا نقول بأنّ فهم بنى القصّة وتطوّرها تاريخيًا يساعد حتّى أكثر الفنّانين جرأةً وإبداعًا على كتابة حبكةٍ منطقية ويجنّبه ارتكاب أخطاءٍ محبِطة، ألا ترى بأنّك تخرج من السينما ضاربًا كفًا بكف بعد أن شاهدت فيلمًا كاد أن يكون مثاليًا لولا ضعف الكتابة؟ وتتعجّب كيف لكاتبٍ أن تفوته تفاصيل لم تفتك كمشاهد؟ إنّ هذه التفاصيل غالبًا ما تكون متعلّقة ببنية العمل.
كيف تستفيد من الهيكليات السردية؟
١. فكّر بهذه الهيكليات على أنّها نتاج هندسة عكسية اجتهد فيها أصحابها، فلو افترضنا أنّك أردت تعلّم الكتابة الروائية عضويًا، لكان عليك فعل ما فعلوه حين درسوا وحلّلوا مئات الأعمال، لكنّهم اختصروا عليك الطّريق، مارس هذه الهندسة مع رواياتك المفضّلة، شرّحها لمحاولة فهم هيكلياتها، إذا قرأت رواية تجريبية فابحث عن الهيكلية الخاصّة بها أو افهم كيف عوّضت العناصر التجريبية غياب الهيكلية الواضحة.
٢. استخدم الهيكليات لمساعدتك في الإجابة عن سؤال "ما هي القصّة؟"، وفي كتابة قصص تدريبية لفهم مواطن الضعف في مهاراتك البنيوية، فقد تكون كاتبًا جيدًا للشخصيات، وقد تكون لديك مهارة كتابة حواراتٍ ذكية، وقد تكون فصيحًا وبليغًا، مع ذلك، تخرج أعمالك هزيلةً مضطربة لضعف بنائها.
٣. افهم أيّ نوعٍ من الكتّاب أنت، فلربّما صوّرت لك أدبيات الكتابة الرّومانسية الكتابة على أنّها عملٌ عبقري لا يحتاج ممارسه إلاّ النظر في الناس والأحوال ثم الضغط على القلم أو الآلة الكاتبة كي تخرج القصص والحبكات دون مشقة ذهنية، لكنّ هذا غير صحيح بالضّرورة، فالكتّاب يتفاوتون في ميلهم إلى الهيكلة والتنظيم، وربّما تفاوتت ميول الكاتب الواحد بين عملٍ وآخر.
لن تعرف أيّ نوع أنت حتّى تبدأ الكتابة، كن منفتحًا، إذا رأيت من نفسك نزعةً مبكّرة للنظام فقد يناسبك أن تبدأ تخطيط العمل من خلال هيكيلية راقت لك، أمّا إن وجدتَ نفسك ميّالاً لتفريغ ما في عقلك قبل التخطيط فأنهِ مسودّتك الأولى قبل أن تختبرها هيكليًا لتتعرّف على ثغرات قصّتك وإمكانياتها.
٤. اكسر القواعد! فقد تكون أفضل طريقة لفهم القواعد هي محاولة كسرها، ماذا لو خططتَ لرواية ثلاثية البنية ثم حذفتَ البنية الثانية؟ كيف يمكنك أن تصل بين المرحلتين الأولى والثالثة دون مرحلة وسطى؟ ماذا لو كتبت قصّة بدون نهاية؟ ماذا لو مات البطل في الذروة؟
أخيرًا، يُعاب على الكتّاب الأمريكيين اليوم حبس أنفسهم في قوالب حتّى أنّ التنبّى بأحداث ومسارات الروايات والأفلام أصبح سهلاً ومملاً، نحن لا نريد هذا المصير لأدبنا المحلي، ونريد أن تستمرّ النزعة العربية نحو الإبداع والتجديد، لكنّ الفهم سابقٌ للإبداع، والتقليد سابقٌ للتجديد.
