أحزر أنّ جلّ مراجعي الرواية سيسهبون في الإطراء على لغة الكاتب السعودي عبدالله ناصر، وهذا مفهوم لا بسبب هيمنة موضوع اللغة على القرّاء العرب فحسب، بل لصعوبة تجاوز بلاغة العمل والتركيب المحكم للعبارات والانتقاء الذكي للمفردات، لكنّي سأترك الحديث عن اللغة إلى مزايا أخرى في الرواية أحسبها أكثر أهمية.

فنّ إبلاغ الخبر

لطالما آمنتُ أنّ فن كتابة القصّة عمومًا والدراما على وجه خاص هو فنّ التلاعب بالأخبار، سيردّد حرفيوا الرواية نصيحتهم الكليشيهية: show don’t tell أو أرني ولا تخبرني، لكنّ الأمر ليس بهذه الأحادية السطحية، يعرف الكاتب الجيد متى يعرض ومتى يخبر، وكيف يقدّم ويؤخّر كل واقعة سواء كانت جانبية أم محورية، وسواء تعلّقت بالبعد الزماني أو المكاني، وسواء اختصّت بالشخصيات أم بالأحداث.

لقد أذهلتني الطرق الذكية التي استخدمها الروائي لتقديم الوقائع المتناثرة إلى القارئ، بدايةً بالإطار الزماني للرواية، إذ يجد القارئ نفسه أمام خطّين يتداخلان ببراعة، يتدفّق الخط الأوّل بوعي السارد وذكرياته وأفكاره المتفرّقة عن والده - بطل القصّة -، ويضبط الكاتب إيقاع هذا الخط عبر التناوب بين المشاهد الدرامية والمقاطع الإخبارية.

انظر مثلاً كيف تستهلّ الرّواية بهذه الإخبارية: "كانت لأبي ثلاثة مسدسات، وبندقية صيد، وترخيص قديم لحمل السلاح. أما المسدسات ففي الرف العلوي للخزانة، إذ طالما أخفى أبي أشياءه الثمينة هناك"   قبل أن ينتقل إلى مشهد قصصي من سنوات الصبا: "كنت قد شاهدته في صباي ينظف مسدساته الثلاثة بعدما فكَّكها في فِناء البيت" ، ثم يعود إلى الإخبار : "يعرف أبي أن السلاح لا يخلو بيدٍ إلا وتنجذب السبابة من تلقاء نفسها إلى الزناد، ويعرف ذلك صانعو الأسلحة حين صمموا قفل الأمان تحسبًا لسبابة طائشة" ، ثم ينتقل إلى مشهد من الحقبة التي يروي فيها القصّة: "كنت قد رافقت صديقي في العام الماضي إلى معرض الأسلحة، فرأيت كيف تتسابق أيادي الزوَّار الخشنة والناعمة إلى المسدسات التي صُفَّت على الطاولات كما تُصف الهواتف الذكية في المتاجر".

هذا التنقل ين المشهدي والإخباري يخلق إيقاعًا سرديًا متماسكًا دون كسر وحدة العمل، الّتي تظل محكومة بموتيف واحد كما سنرى لاحقًا، لاحظ أيضًا كيف يثير الكاتب هنا أسئلة القارئ حول شخصية الأب وكيف كان على معرفة بانجذاب السبّابة التلقائي إلى الزناد، وحول المفارقة بينه وبين الابن الّذي يتعجّب كيف تُصفّ الأسلحة على الطاولات مثل هواتف ذكية.

يهيمن هذا الخط الزّمني - أو اللازمني - على الجزء الأوّل من الرواية "وجه صغير عند النّافذة"، أمّا الخيط الآخر فيستهلّه الروائي بعنوان الجزء الثاني "١/١/١٤٠٧ هـ"، حين: "وقعت تلك الحادثة أو الجناية، على حدِّ وصف القانون، في زمن بعيد بعيد، حتى إن أجدادي الأربعة كانوا جميعًا وقتذاك فوق الأرض، وتلك هبة لا ينعم بها كل الأحفاد".

يُعنى هذا الخط بالحادثة وحدها وهو بذلك يمثّل الحبكة بصورتها التقليدية في الرواية، حيث لا نختبر تقافزًا زمنيًا حرًا وحيث تتفوق المقاطع المشهدية على المقاطع الإخبارية، مع ذلك، نشهد تداخلاً مستمرًا بين الخطين، خطّ هواجس الراوي، وخط قصّة الحادثة، ما يخدم عنصر التشويق في الرواية إذ يؤخّر كشف التفاصيل الجنائية مرة تلو المرة، لكنه يخدم أيضًا هدفًا آخر لا يقل أهمية، ألا وهو خلق ألفة بين القارئ والشخصيات، ولعلّي هنا أستعرض كيف قدّم الراوي لثلاث شخصيات محورية.

الأب

أحببتُ كثيرًا كيف كُشفت لنا شخصية الأب تدريجيًا، لبنةً لبنة، وأحببتُ المفارقة بين صورته الرقيقة في عيني ابنه، وبين صورته الباردة في الحادث، هذه المفارقة التي خلقت له في مخيلتي جسدًا من لحم ودم وروح.

لطالما لف الغموض أبي، فلم أعرف مثلًا حتى المرحلة الثانوية أين كان يعمل. أتذكَّر حيرتي في المدرسة كلما سألني المُعلِّم عن مهنة أبي، إذ كنت أرتجل مهنة جديدة في كل سنة دراسية حتى استقر رأيي على أن يكون محاميًا. لا أعلم ماذا كان جواب أختي، أما أخي الصغير فأخبرهم أن أبي يعمل محققًا، وقد راجت تلك الشائعة في الحي وعززها خيال أحدهم حين أضاف إليها جهاز المباحث العامة. حين ذهبنا لسؤال أبي ضحك وقال إنه رجل أعمال لكن لا يمانع أن نختار له وظيفة أخرى!.

كان النظر إلى حذائه في طفولتنا يشعرنا بالأمان. الفردتان مستقيمتان وملتصقتان بجانب المدخل، بينما تتناثر أحذيتنا في الجانب الآخر بعضها فوق بعض. لا نخاف الليل ولا اللصوص ولا حتى ذلك السفاح الذي شاعت أسطورته في الدمام -كانت تلك الأسطورة تتردد كل بضع سنوات فيسارع إلى نفيها مدير الشرطة- أما إذا غادر أبي فما كنا لنطمئن حتى لو قفلنا الباب مرَّتين.

هذه الأوصاف الحميمية كُتبت تدريجيًا خلال الرّواية، حتّى إذا بلغتِ الحادثة ذروتها، اكتملت صورة الأب، وانجرفت عاطفة القارئ نحوه، وقبل أن يعرف الدّافع وراء الجناية، يكون قد أصبح محاميًا له، إذ أنّ رجلاً بهذه الأوصاف، والدًا بهذه الأوصاف، لا يمكن أن يكون مجرمًا.

أشير هنا أيضًا للعلاقة السّاحرة بين الأب والابن، يثبتُ لنا عبدالله النّاصر بأنّنا لا نحتاج إلى الصّراع الفرويدي المبتذل والمستهلك كي نخرج بعلاقة أبوية تحرّك عواطف القارئ وتسرق انتباهه.

نعير

هل خرج من البيت؟
لا، ما يزال يختبئ هناك.

يُقدّم لنا نعير أوّل مرة في الرواية، مجهول الاسم والمصير، ينبئ اختباؤه المذلّ في بيته والفزع الّذي اكتنفه عن ارتكابه ما يستحق أن يُطارد فيه، لكنّ الكاتب يوقعنا في حيرة عندما يقول: "لا يختبئ إلا الخائف. أيُّ ذنب اقترف ذلك الرجل، أم كان بريئًا؟ والأبرياء يخافون، ولَخوفهم أكبر من خوف المذنبين في معظم الأحيان. يخاف المرء حالما يشعر بدنو الخطر، ولقد أنذَرته غريزته بذلك فلزم البيت"

عندما يصفه والد البطل بالخسيس فإنّا نصدّقه فورًا ونتآمر معه في محاولة الإيقاع به، لكن سرعان ما نرتبك حين يغيّر الكاتب إطار شخصية هذا المجهول: "ما عاد نعير يدخِّن في السر منذ اليوم الذي تحدى فيه خوفه وأشعل سيجارة على مرأى أبيه في البيت" فنتعرّف على تفاصيل أكثر إنسانية عنه، أخته ذات السنّ الأمامي المفقود، شعره الفاحم، تعلّقه بسيارة نيسان الميتين وأربعين، و "السّخام يعلو وجهه حيث يعمل في حقول الزيت.. ويحلم أن يكون موضع ثقة المدير الأمريكي".

عندما يتصلّب نعير في مكانه بعد إدراكه للفخ الّذي أُوقع فيه، نعود ثانيةً للتعاطف مع والد البطل، ففي ذلك السياق الاجتماعي، نعرف أنّ المختبئ والفارّ والجبان إمّا أن يكون أقلّ من رجل، أو أن يكون قد ارتكب جريمة شنيعة تمنعه من مواجهة الرّجال.

سوف نعرف لاحقًا بأنّ والد البطل كان أكثر تعقلاً معه نظير الجرم الّتي ارتكب.

سعدون

سعدون شخصيّة جانبية ومحورية في الوقت ذاته، لا يُروى عنه الكثير، بيد أنّ كلّ ما يُروى عنه مفصليّ وهام، نعرف أولاً بأنّه الأخ غير الشقيق للراوي، وبأنّ إخوته تركوه نائمًا قبل ذهابهم إلى المزرعة، ثمّ نعرف بأنّ أمّه فقدت ثلاثة أطفال قبله حملوا اسمه، فجاءها رسول في المنام يحذرها من هذا الاسم، مع ذلك يصرّ والده على هذا الاختيار، لا يموت سعدون، لكن هل الموت هو الشّكل الوحيد للعنات؟

لاحقًا، وعندما يخبرنا الرّاوي بأنّ نعير نجا من "حكم القتل"، يلمّح لنوع جريمته قبل أن ينتقل إلى الحديث عن سعدون فندرك بألم مفرطٍ ما حدث: "لو كان جدِّي رشيد يومها في القرية لخرج إليه بالرشَّاش ورش الزقاق بالدم طولًا وعرضًا. أراد له الله أن يكون في الشام وقت الحادثة حتى لا تكون مذبحة. لقد نجا بطريقة ما هو الآخر. لم يفارق جدِّي رشيد ابنه سعدون بعد ذلك، إذ راح يصحبه أينما ذهب حتى آخر يوم في حياته"

ثغرات السرد

أعود إلى مهارة الكاتب في التلاعب بالأخبار، بالتحديد إلى إخفائه المتعمّد لكثير من تفاصيل الحبكة، إنّ السّارد يلمّح أكثر ممّا يفصح، ويستخدم العبارات الظنّية للخروج بإجابات محتملة لا قاطعة، ونحن لا نستطيع الثقة به تمامًا، لا بسبب انحيازه المطلق لوالده فحسب، بل لأنّه ينقل حكاية لم يشهدها بعد سنوات من وقوعها.

مع ذلك، يمكن للقارئ ربط الخيوط المتفرّقة والخروج بتصوّر أكثر وضوحًا عن الحادثة، فلو قارنتُ بين الحكاية على الورق والحكاية في ذهني، لوجدتُ الحكاية في ذهني أكثر اكتمالاً، يحبّ القارئ هذا! يحب أن يعامله الكاتب بذكاء وندّية وأن يترك له ثغراتٍ يتحرّك فيها بحريّة ويملأها بخياله واستنتاجاته.     

الرصاصة، استعارة بنيوية

أشرتُ سابقًا إلى اتّساق السّرد رغم تعدّد أشكاله بسبب احتكامه إلى موتيف واحد، هذا الموتيف كما يظهر لنا من الصّفحة الأولى بل من العنوان هو إطلاق الرّصاصة.

وأقول إطلاق لأنّي لاحظتُ عند نقطة ما أثناء قراءتي، بأنّي أعود باستمرار إلى مشهدٍ ظهر في الصّفحتين الأولى: "في أول شقة استأجرها أبي في حي عبدالله فؤاد بالدمام انطلقت رصاصة من مسدسه إلى جدار الصالة، ثم ارتدَّت فاعتلت بالكاد كتفه لتنغرز في الجدار الخلفي. لم تنم أمي ليلتها من الفزع. حاول أبي طمأنتها فطمس أثر الرصاصة. دفع التلفزيون نحو الجدار فاختفى الشق الأول، وعلَّق على الجدار الآخر صورته الكبيرة فتوارت الرصاصة برأسه مثل فكرة"

كنتُ أشعر وأنا أقرأ، بأنّ هذه الرّصاصة اخترقت الحائط ثمّ لم تتوقّف، فكأنّ كلّ ما في الرواية متعلّق بها، أو منطلقٌ معها، وكأنّ الأقسام والفصول والأحداث والجنايات رصاصات متعاقبة، فكّرتُ بأنّي أبالغ في القراءة، وأعتمر قبّعة محنّكي السينما، حتّى بلغتُ النهاية فإذا السارد يقول: "مرَّت حادثة أبي بحياتنا مرور رصاصة في الكتف. لو انخفضت قليلًا لأصابتنا في القلب"، وعاد بي قوله هذا إلى الفصل السّابق المعنون بلوحة رينيه ماغريت، سؤال الناجي بين البندقية والأسرة ونعير ووالده وسعدون.

أخيرًا، نقطة أشكلت علي في العمل

حيّرتني بعض الأجزاء والعبارات حول ما إن كان السّارد قائلها أم هو الكاتب، لا سيّما مقاله عن لوحة "النّاجي" قبيل نهاية الرواية تقريبًا، كما أنّ جملاً تقريرية من نوع: "من التقاليد ألا يجلس حتى يلح عليه الكبير بذلك" و "ربما كان المعدل المرتفع للإنجاب في ذلك الزمن ردًّا طبيعيًّا على ارتفاع معدل الوفيات" ، كانت مربكة على نفس النحو أيضًا.

هذه قراءتي الشخصية وهي قراءة غير موضوعية بالتأكيد، إنّي لا أعلم الغيب، ولم أشهد الكاتب ينصّب الرصاصة بهذه المحورية، ولم أشهده يحفر ثغرات في القصّة أو ينزع تدريجيًا اللثام عن شخصياته، لكنّها رواية لم تختطفني قراءتها فحسب، بل واختطفتني الكتابة عنها أيضًا.