هذا المقال هو الثاني من سلسلة "الرّواية بوصفها سؤالاً مفتوحًا"، اضغط هنا للاطّلاع على المقال الأوّل.

مقدّمة

لطالما أدهشني احتقار قرّاء الأدب للفانتازيا، حتّى أنّهم ليتواضعون بقولهم: "لا بأس بها لتحفيز الصغار والناشئة على القراءة"، ماذا ينقص هذه الأعمال كي تنال الاحترام المستحق؟ تساءلتُ وأنا أستمع لجمهور من القرّاء يناقش الفانتازيا كما يناقش البيض المتحضّرون حقوق السّود. الواقعية؟ لكنّ هؤلاء القرّاء أنفسهم يتغنّون بالرّوايات اللاتينية ويُجلّون مسخ كافكا الّذي لم يكن حقيقيًا حسب اطّلاعي على الأقل.

ثمّ وقعتُ مصادفةً على رسالة من جاي آر آر تولكن، اللساني العظيم وصاحب ملحمة سيّد الخواتم، الأمّ الشّرعية للفانتازيا المعاصرة، يقول فيها: 

عملي ليس «رواية»، بل «رومانسية بطولية» (heroic romance)، وهو نوع أدبي أقدم بكثير ومختلف تمامًا. ومع ذلك، فإنّ لعملي بالطبع بعض سمات الرواية، لأنه كُتب في العصر الحديث، ويجب أن يكون مفهوماً للناس المعاصرين، ولأنّي أنا نفسي رجل معاصر.

المثير للاهتمام في هذا  التّصريح، أنّ الرومانسية البطولية - قصص الفرسان - هي الفنّ الّذي سخر منه ميغيل دي ثيربانتس في دون كيخوته، العمل الّذي صُنّف كأوّل رواية حديثة، فهل كان قدر الرّواية وجمهورها ازدراء الرومانسية بصورها القديمة والجديدة؟ وما الفرق بين الخيال المزدرى في قصص الفانتازيا والخيال المُعظّم في الواقعية السحرية؟ تقودنا هذه الأسئلة إلى استكشاف ماهيّة الرّواية من وجه علاقتها بالخيال.

الرواية، الخيال الشعبي، الفانتازيا الحديثة

عرف الإنسان القصّة منذ الأزل بصورٍ متعدّدة، بدءًا من القصّة المصوّرة على جدران الكهف، وانتهاءًا بألعاب الفيديو الجماعية على الانترنت، مرورًا بالقصائد الملحمية وألواح الطّين المنحوتة برحلة غالغاميش والبطولات المغنّاة على ألسنة المتجوّلين.

والأصل في الحكايات القديمة كان الإبحار في الخيال واختراع خرافات وأساطير بلا شروط. يُذكر أنّ آشوربانيبال، الملك الآشوري المشهور، ادّعى في ترنيمة بأنّه وُلد يتيمًا، ثمّ ادّعى في أخرى بأنّه ابن إله الكتابة نابو، رغم أنّ والده - أسرحدون - كان ملكًا معروفًا، ويزول العجب من هكذا اختلاقات إذا تذكّرنا بأنّ الهدف من هذه القصص لم يكن توثيق العالم على صورته الواقعية، بل محاولة خلق امتداد بينه وبين عالم الغيب المتجاوز له، إمّا لتفسير الواقع المشكل على الإنسان، أو لإضفاء مجد ألوهي على الأفراد أو للتسلية والمتعة وغيرها من الأسباب.

ثمّ ظهرت الرّواية تدريجيًا، وظهرت معها القصّة الواقعية، ولربّما لا يدرك البعض كيف هيمنت الواقعية على الرواية لوقت طويل، فجميع الكلاسيكيين الكبار مثل بالزاك وفلوبير وديكنز وتولستوي كتبوا الرواية كمرآة دقيقة للحياة الاجتماعية، بل وكما ذكرنا سابقًا، فإنّ موضوع أوّل رواية حديثة كان السخرية من قصص الفرسان الخيالية، وهذا تطوّر منطقيّ في العصر الّذي خفت فيه نجم السّحر وسطع نجم العقلانية، فاخترع الإنسان الآلات الضخمة وبدأ بتفسير الظواهر الطبيعية علميًا واستُبدلت مركزية الشّمس البعيدة بالأرض الحاضرة، والغيب اللامتناهي بالإنسان المحدود، يقول سيرفانتس على لسان الكاهن في دون كيخوته متحدثًا عن قصور العقلانية في القصص الخيالية:

وأنّى لهذه الكتب أن تمتّع وهي حافلة بأمور لا معقولة عديدة؟ إنّ متع العقل تتولّد من الجمال والتّوافق بين الأشياء الّتي نراها أو تتراءى لخيالنا، بينما كلّ ما ينطوي في داخله على قبح أو تشويه لا يرضي العقل، فقل لي إذًا أيّ جمال تجده، وأي انسجام بين الأجزاء والكل والكل والأجزاء، في خرافة تجد فيها صبيًا في سنّ السادسة عشرة يشطر إلى نصفين بضربة واحدة من ظهر سيفه، ماردًا هائلاً ارتفاعه كالبرج، وكأنّه من السكّر؟ … وأي عقل، إذا لم يكن عقلاً همجيًا، أن يقتنع حين يقرأ أنّ برجًا عاليًا ممتلئًا بالفرسان، يسبح في عرض البحر، كالسفينة والرياح مواتية، وأن يكون في لومبارديا هذا المساء. وغداً صباحًا في بلاد القسيس خوان في الهند.

من فتى سيرفانتس إلى فتى المانغا: منطق الخيال في الفانتازيا الحديثة

يذكّرني هذا الصبي الّذي يقصم الوحش كالسكّر بأبطال الشونين اليابانيين، مونكي دي لوفي مثلاً، بطل مانغا وأنمي One Piece، الملحمة المتخمة بالقوى الخارقة والكائنات الأسطورية وفواكه الشيطان يأكلها الإنسان فيحرّك الأرض أسفل أعدائه، ويأكلها حيوان الرنّة فيصير نصف إنسان، ويأكلها العملاق فيصير تنّينًا.

يتابع هذه الفانتازيا الممتزجة بالخيال العلمي والمغامرات البطولية، الملايين حول العالم منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، ما يدفع النّخبة للتساؤل عن موقع العقلانية الحديثة من هذه الأعمال، كيف يشاهد بالغٌ هذه الخيالات المطلقة فيتماهى معها عوض استنكارها كما استنكر كاهن سيرفانتس قصص عصره؟

بيد أنّ هناك العديد من الفروق بين الفانتازيا الحديثة والقصص الشعبية، يتعلّق بعضها بتقنيات الكتابة، تحديدًا، تقنيتي الحبكة وبناء العالم، والحبكة مفهوم معروفٌ بين كتّاب الرواية، أمّا بناء العالم فأكثر حضورًا بين كتّاب الفانتازيا، حيث يُعنى هؤلاء ببناء عالم متماسك ومتّسق له شروط وقوانين متحرّرة من شروط الواقع وقوانينه، ما يجعل القصّة منطقية وعقلانية في سياقٍ آخر غير الّذي نعيش فيه، وعندما يكسر الكاتب القواعد أو يتجاوزها فإنّه يواجه بسخط من القرّاء حول جودة الكتابة واتساق الأفكار.

في One Piece على سبيل المثال، صنع الكاتب عالمًا حيث تمنح فواكه الشّيطان آكليها من النّاس والحيوانات خصائص خارقة، هذه الفواكه صُنّفت منذ البداية إلى ثلاث أنواع، تشترك في أنّها تسلب مستخدميها كامل قواهم إذا لمسوا البحر، فلو أنّ واحدًا منهم خلّص نفسه من الغرق دون مساعدة خارجية، أو لو استحدث الكاتب فجأة نوعًا من الفواكه لا لشيء إلاّ ليرتق ثغرة في الحبكة، لسخط الجمهور عليه ولعدّوه كاتبًا رديئًا.

الفرق بين الخيال الشعبوي والفانتازيا الحديثة إذًا، هو في احتكام الثانية الصّارم إلى القواعد، تقول القصّة الفلكلورية: ابتلع الذئب جدّة ليلى ثمّ نام على سريرها، أمّا الفانتازيا الحديثة فتتوقف لخلق عالمٍ تبتلع فيه الذئاب الجدّات دون قتلهن، ربّما ليست ذئابًا حقيقية، بل وحوشًا مهجنةً لها منطقها الخاص، على هذه الفانتازيا أيضًا تبرير إخفاء الوحش هويته عن ليلى، ربّما امتلكت هذه سرًّا ثمينًا، أو أثارت الفضول بشكل ما، أو أنّ أطفال هذا العالم أقوى من الوحوش.

الواقعية السحرية والسّحر مُفرط الواقعية

يعبّر رائد الواقعية السحرية، غابرييل ماركيز في كتاب رائحة الجوّافة بالنيابة عن قرّاء الأدب عن الفرق بين الخيال المقبول والخيال المستهجن، فمن جهة يصرّح بأنّ كافكا كان السبب خلف اتجاهه للكتابة الروائية: "عندما قرأتُ له المسخ وأنا في السابعة عشرة من عمري، أدركتُ بأنّي سأصبح روائيًا، عندما أدركتُ كيف استطاع جوريجو سامسا أن يستيقظ وقد أصبح خنفساء ضخمة، قلتُ لنفسي… لم أكن أعرف أنّ بإمكانك أن تفعل هذا، ولكن إذا كان ذلك بمقدورك. فإنّي بالطّبع سأهتم بالكتابة" ، ومن جهة أخرى يعلّل كراهيته للفانتازيا بإيمانه: "أنّ التخيّل ما هو إلاّ أداة للواقع، وأنّ الواقع هو دائمًا مصدر الخلق" ثمّ يختصر الفرق بين الخيالين: "الفانتازيا بمعنى الاختلاق دون أية قواعد أو شروط على طريقة والت ديزني هي أكثر الأشياء تنفيرًا… إنّ الفرق بين الأسلوبين مثل الفارق بين الكائن البشري والدّمية الّتي تتكلّم من بطنها" .

يستهجن ماركيز إذًا الخيال الشعبوي بصورته الساذجة غير العقلانية التي لا تخضع للقواعد، لكنّ السرّ الحقيقي يظهر في قوله "وأنّ الواقع هو دائمًا مصدر الخلق"، فالخيال المقبول هو ذلك الّذي يُصاغ كاستمرارٍ للواقع حيث يكشف كثافته وغناه، مثلما يكشف مسخ كافكا صورة عالمنا البيروقراطي، ومثلما تكشف النّساء السّاحرات في روايات ماركيز، غنى النّساء اللواتي عنوا به طفلاً.

بمعنى آخر، يرفض ماركيز الخيال الذي لا يُولد من جرح الواقع الاجتماعي والسياسي، لكنّ كاتب الخيال العلمي جون إيفانز يفسّر تحيّز جمهور الأدب ضدّ الفانتازيا بشكلٍ أكثر تفصيلاً وإثارةً للاهتمام، فهو يبرّر نفور المؤسسة الأدبية من الفانتازيا لا بسبب قصور عقلانيتها بل بسبب توغّلها! ما يجعلها أقرب إلى الأعمال الهندسية من الفنية، حيث كلّ ما في العالم الفانتازي مبتكرٌ بعناية مدروسة.

لتوضيح الفرق بين أشكال الخيال الرّوائي المختلفة، يرسم جون إيفانز خطًّا أفقيًا حيث ما يسمّيه بـ "الخيال السيرالي" في أقصى اليسار، وما يسمّيه بـ"الخيال المنهجي" في أقصى اليمين. المقصود بالخيال السيريالي، مظاهر السّحر الفوضوية الّتي لا تُفسَّر، أشباح، أوبئة غامضة، قاربٌ شراعي عالقٌ في البحر، كيسٌ من العظام تطقطق باستمرار، "لكنّ كلّ هذا السحر عشوائي، فوضوي، لا أثر له إلا على من يختبره؛ وجميع هذه الأحداث الخارقة للطبيعة تُروى بنفس النبرة العفوية والواقعية المستخدمة لوصف وجبات الغداء والمشاكل المالية".

يهزّ هذا اللون من السّحر القرّاء، مثل حلمٍ نوستالجي أو تجربة إيوفورية أو عقارٍ مهلوس، لأنّه يخرج من رحم فوضى الواقع، من بلادٍ مضطربةٍ ومتقلقلة، كتب كولومبيٌ مئة عام من العزلة، وكتب هنديّ أطفال منتصف الليل، وكتب نيجيريّ الطّريق الجائع، سحرٌ عشوائيٌّ في بلاد عشوائية.

أمّا "الخيال المنهجي" فيعكس استقرار كتّابه في العالم الغربي الأبيض، ثلاثية السّلام والنّظام والحكومة الجيّدة، "هناك قواعد، وإن كانت ضمنية، تُملى على من يُمارس السحر، ماذا يفعل، وكيف، قواعد تفرّق بين السحرة والعامة، وبين الأدوات المسحورة وأدوات المطبخ العادية. السحر خارق للطبيعة - أي شيء سوى كونه عاديًا - ويتم استكشاف وتوضيح الآثار المذهلة لوجوده".

هذه العقلنة المفرطة، تفعل ما يفعله المعماريون حين يستبدلون المنازل العشوائية بالوحدات السكنية المتطابقة، تزيل السّحر الساذج عن العالم، وتمنع شهقة الدّهشة من الصّعود. عندما يطّلع شغوفٌ بالفانتازيا على أدب الواقعية السحرية يتعجّب عدم احتكامه للمنطق والقواعد، أمّا قرّاء الواقعية السحرية فيخرجون محبطين من الفانتازيا ألّم يمسّهم ذلك السّحر الّذي ألفوه، لا سيّما وأنّنا نعيش في عصرٍ مفرط العقلنة، معقّم البيئة، نتعطّش فيه إلى الرّائحة الخام للعالم القديم.

ماذا لو؟

مع ذلك، للفانتازيا قيمتها الخاصة إذا كنتَ أكثر انفتاحًا لأشكالٍ جديدة للسّرد، قيمةً فلسفية تحدّث عنها كاتب الفانتازيا حسين علي في مقاله المنشور في نشرة إلخ من ثمانية:

بالنسبة لي، تضمر الفانتازيا مقولةً فلسفيةً، وتحديدًا مقولةً نيتشوية، لأنها تعيد اكتشاف العالم والجسد، وتمسرح المكان بقواعد سؤال «ماذا لو؟». ما تقتضيه معالجة هذا السؤال، بأشكاله المتنوعة، يعتمل في النص الفني بوصفه جهازًا معرفيًّا مضمرًا. ولكن ما يميز الفانتازيا عن الأجناس الأدبية الأخرى هو الجذرية في خلق العالم والإنسان"

يتراءى للمرء أحيانًا، وكأنّ النّاس قد قالوا كلّما يمكن قوله عن الواقع، لا سيّما في عصر الانترنت حيث يُعاد اجترار الأفكار ذاتها بألف طريقة، لكن ماذا لو.. ماذا لو خلقنا عوالم جديدة تجبرنا على الخروج من مأزق الكليشيه؟ هل سيكون للبطولة معنى في عجلةٍ زمنية تتكرّر فيها الأدوار بلا نهاية؟ كيف يُبنى النظام الأخلاقي في عالم ذي قوانين كيميائية مختلفة؟ كيف تُروى الحقيقة في عالم لم يعد فيه الموت نهاية؟ ماذا لو اتّحد البشر للقضاء على مشاكلهم الأرضية ثمّ انتقلوا لاستكشاف الفضاء الخارجي؟ ما معنى العدالة في عالم حيث تُمحى الجناية من ذاكرة الضحايا ويفقد المجرمون الذّكريات الّتي شوّهتهم؟

أسئلة لا نهائية، وحبكاتٌ تزداد غرابة يومًا بعد يوم، لكنّ المفارقة هي أنّ الخيال يكشف عن الإنسان نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا ما لا يمكن كشفه داخل حدود الواقع، وهذا ما يشير إليه حسين علي في مقاله:

يحمل كاتب الفانتازيا مهمة خلق واقعٍ جديدٍ بسياسة وتعقيدات جديدة في مغامرة يخضع الناجز من العالم لاختبار ما يمكن للعالم أن يكونه. بعبارة أخرى؛ يعالج الأدب العالم الذي نحن فيه، بينما تبتكر الفانتازيا عوالمَ أخرى بغية معالجة أعمق، تستظهر التعقيد الذي نعيشه بعفوية وبساطة.

تزفيتان تودوروف وعجيبُ أسامة المسلّم

في كتابه "مدخلٌ إلى الأدب العجائبي"، يقدّم تزفيتان تودوروف نظرية بنيوية (genre theory) لتصنيف القصص الخارقة، قد يجدها البعض قديمة وغير صالحة - يُعاب على نظريته تجاهلها للفانتازيا الحديثة بما في ذلك سيّد الخواتم -، ولكنّي أجدها مناسبة جدًا لتصنيف أعمال أسامة المسلّم وفهمها وفهم ازدراء أهل "الأدب الرفيع" لها.

يصنّف تودوروف القصص الخارقة إلى ثلاث فئات بمعيارٍ مثير للاهتمام هو "وجود لحظة التردّد بين التفسير الطبيعي والتفسير الخارق للحدث"، فلدينا أوّلاً العجيب le merveilleux، حيث تنتفي لحظة التردّد منذ البداية، فلا يشك القارئ أنّه أمام أحداث خيالية، ولا تشكك الشخصيات بواقعية عالمها، ثمّ الغريب l’étrange، حيث يُفسّر كلّ ما يحدث في النهاية تفسيرًا منطقيًا، كأن تستيقظ الشخصية من النوم لتكتشف بأنّ كلّ ما عاشته كان حلمًا، وأخيرًا لدينا العجائبي/الفانتازي le fantastique حيث يبقى التردّد بين العقل والجنون، بين الطبيعي والخارق، منذ البداية حتّى النهاية، فلا يدرك القارئ ولا تدرك الشخصيات مدى واقعية الأحداث المعاشة - أشدّد على أن معنى فانتازي هنا مختلف عن الفانتازيا المعروفة والتي تحدثنا عنها أعلاه -.

تنتمي قصص المسلّم إلى النوع الأول، وبالتحديد "العجيب المثيولوجي"، حيث يتقبّل القارئ منذ البداية بأنّه أمام عالم خيالي مستوحى من التراث العربي، هذا التقبّل يوفّر راحة إدراكية، لأنه لا يتطلّب من القارئ أن يشكّ أو يفسّر، بل فقط أن يندهش ويتفاعل، ممّا يجعلها أوسع انتشارًا بين عموم النّاس.

الأساطير وحكايات الجن الشعبية غالبًا ما تقع تحت هذا التصنيف أيضًا، ولا يتطلّب الأمر ذكاءًا لإدراك أنّها أجناسٌ رُويتْ عبر التاريخ شفهيًا، لسببٍ بسيط، هي أنّها تستهدف الجماعة لا الفرد، أي أنّ وظيفتها السردية والاجتماعية مختلفةٌ عن وظيفة الرواية، فالرواية ابنة الحداثة الفردانية، قائمةٌ على الاحتمال لا الحتمية، وعلى وجود الزمن النفسي إلى جانب الزمن الخطّي، وعلى اللغة كوسيطٍ فنّي لا مجرد ناقل للحكاية.

إذًا، تكمن مشكلة الناقد الأدبي مع أسامة المسلّم في نقطتين، الأولى محاكمته بمعايير وأدوات لا تراعي الجنس الّذي يكتبه، والثانية تجاهل وربّما ازدراء القيمة الاجتماعية للعجيب الميثيولوجي، فإذا هو يشدّد على مسائل "العمق" و"سبر أغوار النفس البشرية" و"الحوارات الذكية" لأنّه لا يرا للسّرد المطبوع قيمةً إلاّ بمقدار اقترابه من شروط النّص الحداثي.

إنّ الأسئلة الّتي تُثار حول أعمال المسلّم وغيره يجب أن تنطلق من طبيعة هذه الأعمال، ماذا تضيف إلى الوعي الجمعي؟ وكيف تحرّك الخيال الميثيولوجي الراكد؟ وهل تملك أدوات الامتداد التاريخي للأسطورة؟ وإلى أي درجة تتقاطع مع وتؤثّر ببقية أشكال السرد المحلي؟ ولا أزعم أنّ الإجابة ستكون إيجابية دائمًا، ولكنّها الأسئلة الّتي تساهم في تطوّر هذا النّوع القصصي عربيًا، أمّا اللغة والحوار والاشتغال الفكري والبعد النّفسي فقضايا لا تخصّ هذه الأعمال، ولعلّ ذلك ما يجعلها عصيّة على النّقد الأدبي.

أخيرًا

قد يزدري محبّوا الأدب الخيال، إمّا إساءةً لفهمه أو انحيازًا للواقع، وقد يرفض آخرون التمييز بينهما، وقد يحتكمون إلى العقل، أو يحتقرون الشكل المفرط منه، وقد يجعلون اللغة التقليدية حكمًا على النّص أو يحكّمون شروط الحداثة، إلاّ أنّ ما نتفق عليه جميعًا، هو أنّ على الكتابة بكلّ أشكالها، أن تحترم وقت المتلقي، وأن تضيف قيمة إليه، بفكرة فلسفية مبتكرة، أو بمغامرة شيّقة، أو بتجربةٍ حسّية تحمله إلى أماكن جديدة.