ما إن يشرع الواحد منّا بقراءة كتاب، حتّى يعالج عقله تصنيف ما يقرأ، نعرف منذ الصفحة الأولى ما إن كنّا بصدد قراءة رواية أم رسالة وعظية، ديوان شعرٍ أم سيرة ذاتية، حتّى إذا تعمّقنا أكثر فأكثر أدركنا ما إن كانت رواية رومانسية أم بوليسية، ساخرة أم تراجيدية، فانتازية أم واقعية.
أحيانًا، تخطئ عقولنا التصنيف فيُهيء لنا العمل رواية، ثمّ ندرك بعد بضع صفحاتٍ بأنّا أمام سيرة ذاتية. يحدث العكس مع كتابٍ آخر، حين يختلط علينا تصنيفه فلا نميز ما إن كان خياليًا أم أنّ الكاتب يسرد قصّته الخاصة، تقرير إلى غريكو مثلاً، وفي حالاتٍ أخرى، نستوعب بعد قراءة عدّة فصول بأنّنا أمام عملٍ عصيّ على التّصنيف، نخاطر بكلّ ما نعرفه عن الرواية إذا صنّفناه بينها، لو أنّ مسافرًا في ليلة شتاء أو ماتيو خسر وظيفته على سبيل المثال لا الحصر.
نخرج من بعض الروايات متسائلين ما إن كنّا قد فرغنا من رواية أم قصيدة نثرية طويلة؟ رواية أم سلسلةً من القصص الشعبية؟ بيد أنّ هذا الإدراك وهذه الحيرة، تشيران إلى امتلاكنا مرجعًا داخليًا للرواية تكوّن عبر السّنوات، نعود إليه كلّما صادفنا عملاً جديدًا لنحدّد كيف نتعامل معه وبأيّ صورة نقرأه.
على السّطح، قد نتّفق على ماهية الرواية، فنرشّح رواياتٍ مفضّلة ونحذّر من أخرى هزيلة، وعندما نصادف بحثًا أكاديميًا أو ديوان شعرٍ في قسم الرّواية في مكتبةٍ ما نشعر بوجود خلل ونبدأ بالتشكيك في سلامة التّصنيف المكتبي، مع ذلك، قد نختلف حول تصنيف عملٍ محدّد، يصرّ أحدنا على أنّ الغابة والقفص ليست رواية بل متتالية قصصية، فيجادل الآخر بأنّ التتالي القصصي لا يجعل العمل أقلّ روائية، عند ذاك، نحتكم إلى تعريفاتنا النّظرية للرواية، لنفاجئ بأنّنا لا نمتلك تعريفًا واضحًا!
ماذا عن تجاوز التصنيفات؟
ألا نعيش في عالم اتّسعت فيه حدود الرّواية حتّى خسرت تماسكها وأصبحت في حالة سيولة؟ ألسنا نحبس المؤلّفين وأعمالهم في قوالب ضيّقة عندما نتمسّك بتقاليد التّصنيف؟ يفسّر تزفيتان تودوروف الموقف المشهور من رفض التصنيف كردّة فعلٍ على العصر الكلاسيكي الذي جعل من الأجناس الأدبية سابقةً على الإبداع الأدبي، وحيث مُورِس "نوعٌ من العقاب النّقدي" على الأعمال الّتي تخرج عن شروط تصنيفاتها، وكانت النتيجة أن لم يكتفِ الرومانسيون الثائرون برفض الامتثال للقواعد فحسب، بل رفضوا الاعتراف بوجود ذلك المفهوم أصلاً.
لذلك نجد منظّري الرواية أكثر تأثيرًا على تعريفها من الروائيين الّذين قد يشعرون بالإهانة والتضييق أمام النّظريات السردية، رغم أنّ النظريات - وللمفارقة - ليست إلاّ نتائج مباشرة لأعمال الروائيين أنفسهم، فالرّواية فنٍّ ممتدٍّ لأكثر من ثلاثة قرون، محمّل بتراث ثقافي عالمي لا نستطيع تجاهله، بل إنّا لا نجد روائيًا اختار مهنته دون تأثير قاهر لروائيين سابقين، هم أيضًا تأثّروا بسَلِفهم، هكذا نجد أنفسنا أمام سلسلة عظيمة ومتفرّعة من المؤلّفين الذين يشكّلون في مجملهم تاريخ الرواية ومن ثمّ، تعريفها.
مقاومة قواعد الرواية كمقاومة للهيمنة الأوروبية
بالإضافة إلى اتّساع الرواية لأصنافٍ متباينة تجعل من تعريفها مهمّة شبه مستحيلة، نواجه في العالم العربي تعقيدًا إضافيًا، وهو انتماء الرواية عمومًا وانتماء منظّريها على وجهٍ خاص إلى أوروبا وتاريخها المرتبط بتاريخ الحداثة والاستعمار.
إنّ الخضوع لتعريفٍ للرواية يعني على الغالب الخضوع لتقاليدها الأوروبية، هذه التقاليد الّتي تقصي عملاً بأهميّة ألف ليلة وليلة من التّراث الرّوائي لأسبابٍ قد نستعرضها في مقال آخر. يريد الكاتب العربي كتابة رواية تُحدث التأثير النّفسي والأخلاقي الّذي أحدثه روائيون مثل ديوستويفسكي وكافكا، يريد أن يكون امتدادًا لما أنتجه بلزاك وألكسندر دوما وفيكتور هوغو، ولكن قد يعزّ عليه أن يفعل ذلك من خلال تقاليدهم وداخل الحدود الّتي صنعوها.
تأمّل كيف يُؤرّخ المنظّرون لأوّل رواية حديثة بـ"دون كيخوته"، العمل الأسباني الّذي تزامن مع نشوء الاستعمار الحديث واكتشاف أمريكا، تأمّل كيف ترتبط نشأة الرواية بنشأة الثقافة المطبوعة وقيام الديمقراطيات والمفهوم الفلسفي الأوروبي "للنفس" سواء أخذ هذا المفهوم صورة "الكوجيتو" لدى ديكارت، أو "الهوية والوعي والنّفس" لدى لوك، أو "الوعي المطلق" لدى هيغل، أو "الإيغو" كجانب من جوانب النفس عند فرويد.
وقد يجادل أحدهم بأنّ تاريخ الرّواية لا يبدأ من أوروبا بل من حي بن يقظان أو The Tale of Genji، لكنّ الإشكالية هي أنّ هاذين العملين - وغيرهما - منقطعين عن سلسلة الرّواية الحديثة، فلم يكتب نجيب محفوظ - روائيًا - كامتداد لابن الطّفيل ولم يكتب ميشيما كامتدادٍ لموراساكي شيكيبو.
لا يعني هذا بداهةً أنّ الروائيّين غير الأوربيين قد تغرّبوا بالكامل، فنجيب محفوظ مصريٌ جدًا وكان يكره السفر إلى الخارج حتّى أنّه انتدب ابنته لاستلام جائزة نوبل، أمّا ميشيما فعاش وانتحر تابعًا للتقاليد اليابانية، مع ذلك، ورغم أنّ القارئ يلمس الإخلاص القومي والثقافي في أعمالهما، إلاّ أنّ هذه الأعمال لم تكن لتُولد لولا تأثّرهما بالرواية الأوروبية بطرق مباشرة وغير مباشرة.
لكن يظلّ السّؤال، ما الحاجة إلى تعريف الرواية؟
إذا استطاعت الرواية استيعاب نجيب محفوظ بالقدر الّذي استوعبت فيه جيمس جويس وستيفن كينغ وجي كي رولينغ ويان ليانكه، فعلامَ نسائل تعريفها؟ ألا يكون من المنطقي أن نتخلّى عن حدود النّوع لنشرع الأبواب مطلقة لما شاء الإنسان أن يكتب؟
تجادل الباحثة جيلاشيني كووبان في كتابها Novel in Genre Theory بأنّ فائدة دراسات النّوع لا تساعدنا في فهم طبيعة الرّواية وثقافتها وأصولها وتاريخها ومستقبلها فحسب، بل أيضًا في فهم أسبابها ودوافعها وغاياتها: "لماذا يفعل هذا الشكل من السّرد النثري ما يفعل؟ لماذا ينتشر بخفّة وسرعة حول العالم؟ لماذا يحرّك البشر ويشحنهم ويوجههم لأسرار التماهي العاطفي؟ لماذا يوجز مرارًا وتكرارًا الحسّ التاريخي للحظة ما، ملتقطًا معنى أن نعيش الآن، هنا، على هذا النحو؟ لماذا تحتل الرواية، كجنس أدبي، الزمان والمكان والقلب والعقل بالطريقة التي تفعلها؟ ولماذا يغيّر التفكير في هذه الأسئلة، من فهمنا لطبيعة الرواية وطبيعة الجنس الأدبي؟".
لا يتعلّق الأمر بالعقاب النقدي على الطريقة الكلاسيكية إذًا، بل بالاجتهاد في فهم الإرث الروائي الهائل. في المشهد الأوّل نحن لا نسعى إلى بلورة تعريفٍ جامدٍ مقولبٍ للرواية، إذ أي تعريفٍ يمكن ضحده برائعة أدبية تكسر التقاليد، بل نحن في رحلةٍ مستمرة لا تتوقف لسبر أغوار الرواية، والاستماع إلى آراء المنظّرين والروائيين حولها.
تمتدّ فلسفتنا السردية هذه للهيكلية الرّوائية ورسم الشخصيات وبناء العالم وصناعة المشاهد والثيمات، كلّ نصّ نكتبه هو محاولةٌ للفهم لا الجمود.
في الجزء الثّاني من المقال، سوف نتحدّث عن العلاقة بين الخيال والرواية، ونناقش أسئلة مثل: هل يزدري الروائيون الخيال؟ وما الفرق بين الخيال الشعبوي والخيال الروائي؟ وما الّذي دفع الأديب واللّساني العظيم جاي آر آر تولكن لإنكار انتماء سيّد الخواتم للروايات؟
المصادر:
- شعرية النثر - تزفيان تودوروف - الهيئة العامّة السوريّة للكتاب.
- Novel in Genre Theory - Vilashini Cooppan - Cambridge University Press
- عن الأدب - ج.هيليس ميلر - المركز القومي للترجمة
